[quote]
إنَّ استعراض حركة النقد العربي مهما كان مُختصراً، سيُفضي بنا إلى الجُور على بعض ما يُمكن طرحه من مسائل تخصّ حركة النقد الأدبي عبر تاريخ أُوروبَّا، التي لم تنهض من كبوتها إلاَّ بعد اتِّصالها الثقافي والحضاري مع العرب، ولعلَّنا لا نُبالغ إذا قُلنا إنَّ أُوروبَّا ما كان لثقافتها أن تزدهر ولا لنقدها الأدبي أن ينمو لولا نقلها ما ألَّفه العرب من كُتب الفلسفة والعُلوم والنقد الأدبي، فعن طريق «ابن سينا» و«الفارابي» و«ابن رُشد» و«حازم القرطاجنِّي»، الذين فهموا «أرسطو» ولخَّصوا معارفه، قرأ الأُوروبِّيون هذه المعارف وانكبُّوا على دراستها وما أُضيف إليها، فكانت بداية عصر النُّهوض الأُوروبِّي.
إنَّ الفترة المُمتدَّة من دُخول رُوما في المسيحية حتَّى عصر النهضة، لم تكُن خلوَّاً من مظاهر الوعي الجمالي وبعض البوادر النقدية، ولـ «الأفلاطونية» الجديدة تأثيرٌ بيِّنٌ في هذه الظاهرة مثلما لـ «أرسطو» تأثيرٌ في بعضها، وقد كان القدِّيس «أوغسطين»، (453 - 034ق . م) - وهُو من أبرز دُعاة الكنسية الكاثوليكية - واقعاً تحت تأثير أفكار «أفلاطون»، فهُو يرى أنَّ العالم رائع، لأنَّه من صُنع اللَّه، واللَّه تعالى هُو الجمال المطلق الأبدي غير المحسوس، والجمال المحسوس هُو رمزٌ لوحدة ما وراء الطبيعة، وهُو، في جوهره العميق، تعبيرٌ عن الخير والحقيقة، وحين تطوَّرت المدن في العُصور الوسطى حدثت تغييراتٌ في الفنّ والوعي الفنِّي، وكان ظُهور «تُوما الأكويني»، (5221 - 4721م)، قمَّة هذا التطوُّر، فقد حاول هذا الراهب المُفكِّر أن يُكيِّف آراء «أرسطو» مع الدِّين المسيحي، فخطا بذلك أكثر من خُطوةٍ إلى الأمام، مُتقدِّماً بها أفكار «أوغسطين» ومُفكِّري «الأفلاطونية» الجديدة، واجتهد «الأكويني» لكي يُعطي للجمال المحسوس معالم مُستقلَّةً ويجد له مُستنداً واقعياً وليس ميتافيزيقياً، فالجميل في رأيه يجب أن يتوفَّر فيه الكمال والانسجام والتناسق والضروري والوضوح، والفنّ عنده - كما كان عند «أرسطو» - مُحاكاةٌ للواقع، يكمُن معناه في المعرفة ويُدرك بالتفكير، والرائع هُو الذي يستطيع أن يعكس الأصل ببراعة، وإن كان الأصل غير مرغوبٍ فيه أو غير جميلٍ كما هُو.
إنَّ الآراء النقدية والجمالية البسيطة والقليلة في هذه الفترة لم تكُن ذات فعلٍ كبيرٍ في الحياة الثقافية، لأنَّها مكتوبة، أوَّلاً، باللُّغة اللاَّتينية التي لا يعرفها غير النُّخبة بعد أن انتشرت اللَّهجات المحلِّيَّة وأخذت تستقلّ على شكل لُغاتٍ قومية، وثانياً لأنَّها مُرتبطةٌ أساساً بالفكر اللاَّهُوتي الذي يُعدُّ ركيزة النظام الإقطاعي السائد آنذاك، «إنَّ العُصور الوسطى لم تكُن عُصور نقدٍ أدبيٍّ أو نظريةٍ أدبية، بل كانت عُصور إبداعٍ مُتميِّز، فقد ظهرت فيها الرُّومانس - «روايات الفُرسان» - والقصائد الغنائية، وعادت المسرحية إلى الوجود، وازدهرت الحكاية بأنواعها، فمهَّدت الأرض لمستقبلٍ نقديٍّ مُهمّ»، ظهر ابتداءً من بزوغ عصر النهضة، الذي يُحدِّده بعض المُؤرِّخين بالقرن الرابع عشر، حين أخذت إيطاليا تُنشئ مدارسها، مُعتمدةً على ما خلَّفه العرب من تُراثٍ علميٍّ وفلسفيٍّ في الأندلس، أسهم في انفتاحها على الفكر اليُوناني، فصارت تعتني به عنايةً كبيرةً تجسَّدت في الأدب والفنّ، ابتداءً من «دانتي» و«بنزرك» إلى «رافائيل» و«ميكائيل أنجلو» و«ليوناردو دافنشي»، وقد توطَّدت العُلوم الإنسانية في إيطاليا، وزاد ازدهارها في القرن الخامس عشر، لأسبابٍ كثيرة، أهمّها :
} امتلاك إيطاليا كُنوزاً من المخطوطات القديمة بسبب المركز الدِّيني الذي تحتلّه.
} سُقوط القسطنطينية عام 3541م على أيدي العُثمانيين، وهُروب الإغريق القاطنين فيها إلى مُدن إيطاليا ونقلهم معارفهم وآدابهم إليها.
} اختراع الطباعة عام 3441م والبدء بنشر الكُتب القديمة والجديدة وإخراجها من أيدي النُّخبة وإنزالها إلى مَنْ يُريد قراءتها من أبناء الشعب.
لا يُبالغ أحدٌ إذا عدَّ اكتشاف كتاب «أرسطو» في إيطاليا، الحدث الأهمّ في تاريخ النقد، وقد اجتمع ما فُهم من شُروح كتاب «أرسطو» مع الإعجاب الشديد بلُغة الأقدمين وتُراثهم الأدبي وسعي الإنسانيين والنُّقَّاد إلى ترجمته وتحقيقه والدعوة إلى تقليده واتِّخاذه قُدوة، وقد سُمِّيت الحركة النقدية المرتبطة بذلك والأدب المصنوع في ظلِّها، بـ «الكلاسيكية»، التي عمَّت أقطار أُوروبَّا، لكنَّها لم تكُن في زمنٍ واحدٍ وعلى درجةٍ واحدة، ففي إيطاليا يقترن بدؤها بعصر النهضة، «مُنذُ القرن الرابع عشر»، وفي فرنسا وإنجلترا في القرن السابع عشر، وفي إسبانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر، وقد كان القرن السابع عشر في أُوروبَّا، بما فيه من نشاطٍ ثقافيّ، قرن ظُهور النُّقَّاد المحترفين، وفيه تعالت صيحات الخُصومة الأدبية بين القُدماء والمُحدِّثين، وكان من أهمِّ ما يُميِّزه نُشوء الصحافة وتأسيس صحافةٍ أدبيةٍ أدَّت إلى نُشوء نقدٍ صحفيٍّ كان أساساً لنقدٍ مُتواصلٍ مُتطوِّر.
أمَّا خُلاصة النقد في القرن الثامن عشر، فتتمثَّل في سعيٍ حثيثٍ للتخلُّص من النقد الكلاسي، وبناء أدبٍ جديدٍ ونقدٍ جديدٍ ينطلقان من الذات وحُبّ الطبيعة والعاطفة والخيال وتاريخية صلة الفرد بالمجموع والمحيط ليكون هذا نواةً لمذهبٍ جديدٍ عُرف بالرُّومانسية، وقد نشأت في هذا القرن طلائع نقدٍ جديدٍ جعل نُقَّاد الكلاسية يأخذون ببعض ملامحه، مثل الأخذ بالحسِّ التاريخي، كما هُو الحال عند الناقد الإنجليزي «درايدن»، (0361 - 0071م)، وهُو أحد الذين ساهموا في تشكيل المدرسة الكلاسية في إنجلترا، ومثَّل التساهل بقانون الوحدات الثلاث عند «سكسير»، وراح يتَّضح اتِّجاهٌ جديدٌ كان من أهمِّ أعلامه الناقد الألماني «يسينغ»، (9271 - 1871م)، الذي راح يدَّعي الجديد، كما أنَّه وضع كتاباً مُهمَّاً في تاريخ النقد الأدبي، سمَّاه «اللاَّوكون»، وقد كان هذا الكتاب عن الصراع القائم بين الرسم والشِّعْر، حيثُ فضَّل فيه الشِّعْر على الرسم، ووضع سُلَّماً للفُنون جعل الشِّعْر أعلاها، ونظر إلى التمثال والمقطع الشِّعْرِيّ، فرأى أنَّ الشِّعْر أقدر من الفُنون التشكيلية على التعبير، لأنَّ تلك الفُنون تُصوِّر حالةً راكدةً في وضعٍ واحد، أمَّا الشِّعْر، فيُعبِّر عن الحركة، حركة الأفعال والعواطف والانفعالات، وتقدَّمت حركة النقد الرُّومانسي في إنجلترا، حيثُ برز فيها الشاعران الناقدان «ورذروث» و«كُولردج»، أمَّا في فرنسا، فقد أصبح «هُوغو» و«سنت بيف» أبرز نُقَّاد الرُّومانسية فيها.
وإذا كان من سمات الأدب في نهاية القرن الثامن عشر، ثُمَّ القرن التاسع عشر، كسر جُمود الكلاسيكية ومنح الذاتية أقصى مُرادها وتحقيق الحُرِّيَّة الواسعة للأديب وتمزيق أُسطورة الوحدات الثلاث والفصل التامّ بين الأنواع، فإنَّ صفةً أخرى لا بُدَّ من تأكيدها، وهي الاعتراف بالعلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع والشاعر والعصر وتأكيد المحلِّيَّة، وقد صحبت الرُّومانسية حركةٌ نقديةٌ مُهمَّةٌ دارت رحاها في المجالس والمنتديات والصُّحف، ويحتلّ الشاعر «ماثيو آرنولد»، (2281 - 8881م)، مكانةً مرموقةً في النقد الأدبي، وتُقرن باسمه مقولةٌ تنصُّ على أنَّ «الشِّعْر في أعماقه نقد الحياة»، وأنَّ «هدف الأدب نقد الحياة»، وقد شرح «آرنولد» المقولة، فقال : «الشِّعْر نقد الحياة بشُروطٍ حدَّدتها قوانين الحقيقة الشِّعْرِيَّة والجمال الشِّعْرِيّ»، وأكَّد أنَّ أهمِّيَّة الشِّعْر على مدى العُصور تكمُن في ما يُحدثه هذا الشِّعْر في نفس القارئ من بهجةٍ وسُرور، وقد نادى «آرنولد» بالنقد الموضوعي، واشترط على الناقد أن يتميَّز بالصدق والجدِّيَّة والحياد وسعة الأُفق، لأنَّ المقياس الحقيقي للنقد هُو المقياس الموضوعي الذي لا يأبه بالتاريخ ولا بالأهواء الشخصية، وإنَّما ينظر إلى العمل الأدبي في ذاته بدُون أيِّ اعتباراتٍ خارجية.
ولا يُمكننا أن نتحدَّث عن النقد الأدبي في القرن التاسع عشر دُون أن نُشير إلى الأدب الذي أثمرته رُوسيا في هذا القرن، وحسبنا أن نعدّ من أدبائها «بُوشكين» و«تُورغينيف» و«غُوغول» و«ستويفسكي» و«تُولستوي» و«تشيخوف»، وقد صحب هذا الأدب نقاشٌ ونقدٌ كبيران مثَّلا تطوُّراً فكرياً قلَّ نظيره في أُوروبَّا، وكان من أهمِّ النُّقَّاد الرُّوس في تلك الفترة، : «بينسكي»، «تشير نشنسكي»، «دُوبرولو بوف»، «بيسارف»، «بيخانوف»، الذين آمنوا إيماناً عميقاً بأنَّ وظيفة الأدب هي خدمة الحياة وتطويرها نحو الأفضل، وبذلك ربطوا النشاط الإبداعي بالحياة الاجتماعية، وبيَّنوا أنَّ قيمة أيّ عملٍ تبرز بمقدار تعبيره عن الواقع الاجتماعي تعبيراً خلاَّقاً، فكان ذلك تأسيساً لمنهج الواقعية الانتقادية.
< هامش :
} «مبادئ النقد ونظرية الأدب».
} مجلَّة «الموقف الأدبي»، العدد (11)، 5791م.
} مجلَّة «المعرفة».
} مجلَّة «الفكر العربي».
إنَّ استعراض حركة النقد العربي مهما كان مُختصراً، سيُفضي بنا إلى الجُور على بعض ما يُمكن طرحه من مسائل تخصّ حركة النقد الأدبي عبر تاريخ أُوروبَّا، التي لم تنهض من كبوتها إلاَّ بعد اتِّصالها الثقافي والحضاري مع العرب، ولعلَّنا لا نُبالغ إذا قُلنا إنَّ أُوروبَّا ما كان لثقافتها أن تزدهر ولا لنقدها الأدبي أن ينمو لولا نقلها ما ألَّفه العرب من كُتب الفلسفة والعُلوم والنقد الأدبي، فعن طريق «ابن سينا» و«الفارابي» و«ابن رُشد» و«حازم القرطاجنِّي»، الذين فهموا «أرسطو» ولخَّصوا معارفه، قرأ الأُوروبِّيون هذه المعارف وانكبُّوا على دراستها وما أُضيف إليها، فكانت بداية عصر النُّهوض الأُوروبِّي.
إنَّ الفترة المُمتدَّة من دُخول رُوما في المسيحية حتَّى عصر النهضة، لم تكُن خلوَّاً من مظاهر الوعي الجمالي وبعض البوادر النقدية، ولـ «الأفلاطونية» الجديدة تأثيرٌ بيِّنٌ في هذه الظاهرة مثلما لـ «أرسطو» تأثيرٌ في بعضها، وقد كان القدِّيس «أوغسطين»، (453 - 034ق . م) - وهُو من أبرز دُعاة الكنسية الكاثوليكية - واقعاً تحت تأثير أفكار «أفلاطون»، فهُو يرى أنَّ العالم رائع، لأنَّه من صُنع اللَّه، واللَّه تعالى هُو الجمال المطلق الأبدي غير المحسوس، والجمال المحسوس هُو رمزٌ لوحدة ما وراء الطبيعة، وهُو، في جوهره العميق، تعبيرٌ عن الخير والحقيقة، وحين تطوَّرت المدن في العُصور الوسطى حدثت تغييراتٌ في الفنّ والوعي الفنِّي، وكان ظُهور «تُوما الأكويني»، (5221 - 4721م)، قمَّة هذا التطوُّر، فقد حاول هذا الراهب المُفكِّر أن يُكيِّف آراء «أرسطو» مع الدِّين المسيحي، فخطا بذلك أكثر من خُطوةٍ إلى الأمام، مُتقدِّماً بها أفكار «أوغسطين» ومُفكِّري «الأفلاطونية» الجديدة، واجتهد «الأكويني» لكي يُعطي للجمال المحسوس معالم مُستقلَّةً ويجد له مُستنداً واقعياً وليس ميتافيزيقياً، فالجميل في رأيه يجب أن يتوفَّر فيه الكمال والانسجام والتناسق والضروري والوضوح، والفنّ عنده - كما كان عند «أرسطو» - مُحاكاةٌ للواقع، يكمُن معناه في المعرفة ويُدرك بالتفكير، والرائع هُو الذي يستطيع أن يعكس الأصل ببراعة، وإن كان الأصل غير مرغوبٍ فيه أو غير جميلٍ كما هُو.
إنَّ الآراء النقدية والجمالية البسيطة والقليلة في هذه الفترة لم تكُن ذات فعلٍ كبيرٍ في الحياة الثقافية، لأنَّها مكتوبة، أوَّلاً، باللُّغة اللاَّتينية التي لا يعرفها غير النُّخبة بعد أن انتشرت اللَّهجات المحلِّيَّة وأخذت تستقلّ على شكل لُغاتٍ قومية، وثانياً لأنَّها مُرتبطةٌ أساساً بالفكر اللاَّهُوتي الذي يُعدُّ ركيزة النظام الإقطاعي السائد آنذاك، «إنَّ العُصور الوسطى لم تكُن عُصور نقدٍ أدبيٍّ أو نظريةٍ أدبية، بل كانت عُصور إبداعٍ مُتميِّز، فقد ظهرت فيها الرُّومانس - «روايات الفُرسان» - والقصائد الغنائية، وعادت المسرحية إلى الوجود، وازدهرت الحكاية بأنواعها، فمهَّدت الأرض لمستقبلٍ نقديٍّ مُهمّ»، ظهر ابتداءً من بزوغ عصر النهضة، الذي يُحدِّده بعض المُؤرِّخين بالقرن الرابع عشر، حين أخذت إيطاليا تُنشئ مدارسها، مُعتمدةً على ما خلَّفه العرب من تُراثٍ علميٍّ وفلسفيٍّ في الأندلس، أسهم في انفتاحها على الفكر اليُوناني، فصارت تعتني به عنايةً كبيرةً تجسَّدت في الأدب والفنّ، ابتداءً من «دانتي» و«بنزرك» إلى «رافائيل» و«ميكائيل أنجلو» و«ليوناردو دافنشي»، وقد توطَّدت العُلوم الإنسانية في إيطاليا، وزاد ازدهارها في القرن الخامس عشر، لأسبابٍ كثيرة، أهمّها :
} امتلاك إيطاليا كُنوزاً من المخطوطات القديمة بسبب المركز الدِّيني الذي تحتلّه.
} سُقوط القسطنطينية عام 3541م على أيدي العُثمانيين، وهُروب الإغريق القاطنين فيها إلى مُدن إيطاليا ونقلهم معارفهم وآدابهم إليها.
} اختراع الطباعة عام 3441م والبدء بنشر الكُتب القديمة والجديدة وإخراجها من أيدي النُّخبة وإنزالها إلى مَنْ يُريد قراءتها من أبناء الشعب.
لا يُبالغ أحدٌ إذا عدَّ اكتشاف كتاب «أرسطو» في إيطاليا، الحدث الأهمّ في تاريخ النقد، وقد اجتمع ما فُهم من شُروح كتاب «أرسطو» مع الإعجاب الشديد بلُغة الأقدمين وتُراثهم الأدبي وسعي الإنسانيين والنُّقَّاد إلى ترجمته وتحقيقه والدعوة إلى تقليده واتِّخاذه قُدوة، وقد سُمِّيت الحركة النقدية المرتبطة بذلك والأدب المصنوع في ظلِّها، بـ «الكلاسيكية»، التي عمَّت أقطار أُوروبَّا، لكنَّها لم تكُن في زمنٍ واحدٍ وعلى درجةٍ واحدة، ففي إيطاليا يقترن بدؤها بعصر النهضة، «مُنذُ القرن الرابع عشر»، وفي فرنسا وإنجلترا في القرن السابع عشر، وفي إسبانيا وألمانيا في القرن الثامن عشر، وقد كان القرن السابع عشر في أُوروبَّا، بما فيه من نشاطٍ ثقافيّ، قرن ظُهور النُّقَّاد المحترفين، وفيه تعالت صيحات الخُصومة الأدبية بين القُدماء والمُحدِّثين، وكان من أهمِّ ما يُميِّزه نُشوء الصحافة وتأسيس صحافةٍ أدبيةٍ أدَّت إلى نُشوء نقدٍ صحفيٍّ كان أساساً لنقدٍ مُتواصلٍ مُتطوِّر.
أمَّا خُلاصة النقد في القرن الثامن عشر، فتتمثَّل في سعيٍ حثيثٍ للتخلُّص من النقد الكلاسي، وبناء أدبٍ جديدٍ ونقدٍ جديدٍ ينطلقان من الذات وحُبّ الطبيعة والعاطفة والخيال وتاريخية صلة الفرد بالمجموع والمحيط ليكون هذا نواةً لمذهبٍ جديدٍ عُرف بالرُّومانسية، وقد نشأت في هذا القرن طلائع نقدٍ جديدٍ جعل نُقَّاد الكلاسية يأخذون ببعض ملامحه، مثل الأخذ بالحسِّ التاريخي، كما هُو الحال عند الناقد الإنجليزي «درايدن»، (0361 - 0071م)، وهُو أحد الذين ساهموا في تشكيل المدرسة الكلاسية في إنجلترا، ومثَّل التساهل بقانون الوحدات الثلاث عند «سكسير»، وراح يتَّضح اتِّجاهٌ جديدٌ كان من أهمِّ أعلامه الناقد الألماني «يسينغ»، (9271 - 1871م)، الذي راح يدَّعي الجديد، كما أنَّه وضع كتاباً مُهمَّاً في تاريخ النقد الأدبي، سمَّاه «اللاَّوكون»، وقد كان هذا الكتاب عن الصراع القائم بين الرسم والشِّعْر، حيثُ فضَّل فيه الشِّعْر على الرسم، ووضع سُلَّماً للفُنون جعل الشِّعْر أعلاها، ونظر إلى التمثال والمقطع الشِّعْرِيّ، فرأى أنَّ الشِّعْر أقدر من الفُنون التشكيلية على التعبير، لأنَّ تلك الفُنون تُصوِّر حالةً راكدةً في وضعٍ واحد، أمَّا الشِّعْر، فيُعبِّر عن الحركة، حركة الأفعال والعواطف والانفعالات، وتقدَّمت حركة النقد الرُّومانسي في إنجلترا، حيثُ برز فيها الشاعران الناقدان «ورذروث» و«كُولردج»، أمَّا في فرنسا، فقد أصبح «هُوغو» و«سنت بيف» أبرز نُقَّاد الرُّومانسية فيها.
وإذا كان من سمات الأدب في نهاية القرن الثامن عشر، ثُمَّ القرن التاسع عشر، كسر جُمود الكلاسيكية ومنح الذاتية أقصى مُرادها وتحقيق الحُرِّيَّة الواسعة للأديب وتمزيق أُسطورة الوحدات الثلاث والفصل التامّ بين الأنواع، فإنَّ صفةً أخرى لا بُدَّ من تأكيدها، وهي الاعتراف بالعلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع والشاعر والعصر وتأكيد المحلِّيَّة، وقد صحبت الرُّومانسية حركةٌ نقديةٌ مُهمَّةٌ دارت رحاها في المجالس والمنتديات والصُّحف، ويحتلّ الشاعر «ماثيو آرنولد»، (2281 - 8881م)، مكانةً مرموقةً في النقد الأدبي، وتُقرن باسمه مقولةٌ تنصُّ على أنَّ «الشِّعْر في أعماقه نقد الحياة»، وأنَّ «هدف الأدب نقد الحياة»، وقد شرح «آرنولد» المقولة، فقال : «الشِّعْر نقد الحياة بشُروطٍ حدَّدتها قوانين الحقيقة الشِّعْرِيَّة والجمال الشِّعْرِيّ»، وأكَّد أنَّ أهمِّيَّة الشِّعْر على مدى العُصور تكمُن في ما يُحدثه هذا الشِّعْر في نفس القارئ من بهجةٍ وسُرور، وقد نادى «آرنولد» بالنقد الموضوعي، واشترط على الناقد أن يتميَّز بالصدق والجدِّيَّة والحياد وسعة الأُفق، لأنَّ المقياس الحقيقي للنقد هُو المقياس الموضوعي الذي لا يأبه بالتاريخ ولا بالأهواء الشخصية، وإنَّما ينظر إلى العمل الأدبي في ذاته بدُون أيِّ اعتباراتٍ خارجية.
ولا يُمكننا أن نتحدَّث عن النقد الأدبي في القرن التاسع عشر دُون أن نُشير إلى الأدب الذي أثمرته رُوسيا في هذا القرن، وحسبنا أن نعدّ من أدبائها «بُوشكين» و«تُورغينيف» و«غُوغول» و«ستويفسكي» و«تُولستوي» و«تشيخوف»، وقد صحب هذا الأدب نقاشٌ ونقدٌ كبيران مثَّلا تطوُّراً فكرياً قلَّ نظيره في أُوروبَّا، وكان من أهمِّ النُّقَّاد الرُّوس في تلك الفترة، : «بينسكي»، «تشير نشنسكي»، «دُوبرولو بوف»، «بيسارف»، «بيخانوف»، الذين آمنوا إيماناً عميقاً بأنَّ وظيفة الأدب هي خدمة الحياة وتطويرها نحو الأفضل، وبذلك ربطوا النشاط الإبداعي بالحياة الاجتماعية، وبيَّنوا أنَّ قيمة أيّ عملٍ تبرز بمقدار تعبيره عن الواقع الاجتماعي تعبيراً خلاَّقاً، فكان ذلك تأسيساً لمنهج الواقعية الانتقادية.
< هامش :
} «مبادئ النقد ونظرية الأدب».
} مجلَّة «الموقف الأدبي»، العدد (11)، 5791م.
} مجلَّة «المعرفة».
} مجلَّة «الفكر العربي».
الأحد أكتوبر 17, 2010 1:17 pm من طرف خالد عبدالوهاب
» مكبات النفايات
الإثنين سبتمبر 27, 2010 4:07 pm من طرف بركات بدل
» الفقراء بالشرفة فى رمضان
الأحد أغسطس 15, 2010 9:10 am من طرف admin
» الأخ العزيز الدهاشة
الأحد أغسطس 15, 2010 9:06 am من طرف admin
» ابوعركى
الجمعة أبريل 02, 2010 4:46 pm من طرف admin
» الشهادة
الأحد مارس 28, 2010 5:12 pm من طرف admin
» عاجبني الكريم : احمد الفرجوني و الامين وعاصم البنا
الثلاثاء نوفمبر 03, 2009 12:02 am من طرف صلاح عبدالله ادريس
» new one
الثلاثاء يونيو 30, 2009 2:30 pm من طرف admin
» asim albana USA
الثلاثاء مايو 19, 2009 1:48 am من طرف محمد الشريف بدل